سورة النور - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ.. إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}.
الأيامى: جمع أيّم، وهو من لم تكن له زوجة، أو من لم يكن لها زوج.
والأمر موجه إلى المجتمع الإسلامى كله.. وهو نصح وإرشاد، وترغيب في الزواج، وذلك لما فيه من وقاية، وحصانة، وتعفف.. وهو مما يعين على الاستجابة لما أمر اللّه به في الآيات السابقة، من غضّ الأبصار وحفظ الفروج.
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «يا معشر الشباب.. من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر، وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء».
والباءة: القدرة على التزوج، وامتلاك الصلاحية له.
والوجاء: الخصاء، الذي به تموت الشهوة، وينقطع اتصال الرجل بالمرأة.
فالمسلمون مطالبون بأن يتحصنوا بالزواج، وأن يرغبوا فيه، وييسّروا أموره، وذلك حتى لا تفشو فيهم دواعى الفساد، والاعتداء على الفروج، أو حتى لا يتجه أصحاب الإيمان القوىّ إلى الرهبنة، التي تحرمها شريعة هذا الدين.
كما يقول الرسول الكريم: «النكاح سنّتى، فمن رغب عن سنتى فليس منّى..».
وكما يقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «لا رهبانية في الإسلام».
وقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} معطوف على قوله تعالى:
{وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ}.
أي وزوجوا من لم يتزوج من أحراركم وحرائركم، وزوجوا كذلك الصالحين من عبادكم وهم العبيد، وإمائكم، وهن الرقيقات.. أي وكما يرشدكم اللّه سبحانه وتعالى إلى أن تتزاوجوا فيما بينكم أيها الأحرار، لتحفظوا فروجكم، كذلك ينصح لكم أن تزوجوا من ترونه صالحا للزواج من عبيدكم وإمائكم.. فهم بشر مثلكم، فيهم رغبة وشهوة، وإنه لا سبيل إلى قضاء هذه الشهوة، إن لم يكن في حلال، ففى حرام.
ومن أجل هذا، فإن على من في يده فتى أو فتاة، أن يرعى اللّه فيهما، وألّا يدعهما هملا، يعيشان في الفاحشة كما تعيش البهائم.. فهم جزء من المجتمع الإنسانى، وفى فسادهم فساد للمجتمع، ومنهم تصل العدوى إلى غيرهم من الأحرار والحرائر.
وفى وصف العبيد والإماء بالصلاح، إشارة إلى أنه ليس كل عبد أو أمة صالحا للزواج.. فإن حياة العبيد والإماء تذهب بكثير من معالم إنسانيتهم.
ولكن يبقى- مع هذا- قدر صالح من الإنسانية عند بعضهم، يصلح به أن يكون أهلا للزواج من مثله.
وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
الضمير في {يَكُونُوا} يعود إلى المذكورين في الآية من {الْأَيامى} ويشير من طرف خفىّ إلى العبيد والإماء.. أي إن يكن هؤلاء المذكورون صالحين للزواج، وراغبين فيه طلبا للتعفف، ولكن يمنعهم خوف الفقر والحاجة، وعدم القدرة على حمل أعباء الزوجية، وما تجىء به من ذرية- إن يكن هذا صارفا لهم عن التزوج فليتزوجوا، واللّه سبحانه وتعالى يعدهم سعة الرزق، ودفع الضرّ الذي يتوقعونه من الزواج، ما دامت نيتهم قائمة على طلب مرضاة اللّه، وحفظ الفروج بهذا الزواج.
وهذا وعد كريم من اللّه سبحانه، لا بدّ أن يتحقق، وذلك لأمرين:
أولهما: أنه وعد من اللّه.. واللّه سبحانه وتعالى لا يخلف وعده!.
وثانيهما: أن هذا الوعد يحمل معه أسباب الغنى!.
وكيف؟.
والجواب، هو أن الذي يطلب في الزواج العصمة لدينه والحفاظ على شرفه ومروءته، هو إنسان جادّ في هذه الحياة، وملء إهابه، إيمان، وتقى، وجدّ، وعزم.. وأنه ليس من اللاهين الفارغين، الذين يقضون حياتهم في اللهو والعبث، وتصيّد الشهوات، والتقاطها من كل وجه.. فهؤلاء الذين يشغلون بالبحث عن اللذات والمتع، وقضاء الشهوات، هم أقرب الناس إلى الفقر، وأدناهم إلى الحاجة والعوز، لأنهم لا يصرفون أنفسهم إلى عمل جاد مثمر أبدا.
أما أولئك الذين تحصنوا بالزواج، فقد أراحوا أنفسهم من هذا الجري اللاهث وراء شهواتهم، وهم لهذا منصرفون إلى العمل الجاد المثمر، الذي يبذلون له كل جهدهم وطاقتهم.. وهذا من شأنه أن يملأ أيديهم من الخير، وأن يدنيهم من الغنى، بل ويحققه لهم.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} إشارة إلى سعة فضل اللّه، وأنه لا يضيق بالطالبين لفضله، المبتغين من رزقه، وهو {عَلِيمٌ} بما يصلح أمرهم، ويقربهم من فضله، ويعرّضهم لرزقه.. ومن ذلك تحصنهم بالزواج.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الكتاب: المكاتبة، وهو أن يطلب العبد إلى مولاه أن يعتقه من الرقّ، في مقابل قدر من المال، يؤديه إليه، فيعطيه سيّده بذلك كتابا، يذكر له فيه المال الذي كاتبه عليه.
وفى دعوة ما لكى الرقاب إلى مكاتبة من في أيديهم، ممن يرغب منهم في هذا- دعوة إلى تحرير الأرقاء، وفكّ الرقاب.. وذلك بعد الدعوة إلى حفظ إنسانيتهم، ورفع قدرهم بالزواج، ونقلهم من دائرة الحيوان إلى عالم الإنسان.
وفى قوله تعالى: {فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} إرشاد لمالكى الرقاب، إذا هم استجابوا لأمر اللّه، ورغبوا في مكاتبة من يطلب المكاتبة من مواليهم- أن ينظروا في حالهم قبل أن يكاتبوهم، وأن يتحرّوا صلاحيتهم للحياة بعد أن يتحرّرا من الرق-.. فقد لا يكون لمن يتحرر منهم حيلة في الحياة الجديدة التي يدخل فيها، فيصبح- وهو الحر- عالة على المجتمع، يعيش على السؤال والتكفف، وفى هذا ضياع له، أكثر من ضياعه وهو في قيد الرق!.
ولا شك أن السيد إذا أمسك عن مكاتبة عبده، وهو ينظر في هذا إلى مصلحة العبد نفسه- إنما يريد له الخير، باختيار ما هو أصلح له.. وسيد هكذا.. هو سيد يخاف اللّه ويتقيه، في هذا الإنسان الذي ملكه اللّه رقبته، وحفظه في يده رقيقا خير من إطلاقه. وهو لا يحسن القيام على نفسه.
وفى قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ} دعوة إلى المؤمنين جميعا، ومنهم السيد مالك الرقيق المكاتب، أن يعينوهم على جمع المال المطلوب منهم، حتى يتخلصوا من أسر الرق، وحتى يدخلوا في المجتمع الحرّ، ويكونوا قوة عاملة فيه.
قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}.
البغاء: من البغي، وهو العدوان على حدود اللّه بإهدار حصانة الفروج.
والنهى هنا متجه إلى من يملكون إماء في أيديهن.
وقد أجمعت أقوال المفسرين جميعا، على أن معنى إكراه الإماء على البغاء، هو دعوة مالكيهن لهن إلى طلب البغاء، رغبة في الحصول على المال الذي يجمعنه لهم من هذا الوجه الخسيس.
والنهى هنا واقع على مالك الرقبة، إذا أرادت المملوكة تحصنا وتعفّفا.. أما إذا كان البغاء بدعوة من سيدها، وعن رغبة ورضا منها، فلا محلّ للنهى، ويكون هذا البغاء مباحا.. هذا ما يفهم مما أجمع عليه المفسرون في تأويل هذه الآية.
وللمفسرين في هذا تخريجات، وأساتيد يستندون إليها، ومرويات يأتون بها، في أسباب النزول، والأحداث التي لابست نزول الآية.
والحق أننا لم نر في هذه التخريجات وجها، نقبلها عليه، وأن نفهم كلمات اللّه بها، دون أن يكون في الصدر حرج، وفى القلب ضيق ووسواس!.
فمن أراد أن ينظر في هذه المرويات، وتلك التخريجات فهى مبثوثة في كتب التفاسير، يضيق الصّدر بها، ويثقل على النفس نقلها هنا.
وقد هدانا اللّه سبحانه وتعالى، إلى مفهوم للآية الكريمة. نرجو أن يكون أقرب إلى الصواب، وأدنى إلى الحقّ.
فالفهم الذي نستريح إليه في الآية الكريمة.. هو أن قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} هو دعوة إلى مالكى رقاب هؤلاء الفتيات (الإماء) بتزويجهن إذا رغبن في الزواج. ليتحصّن به، وليحفظن فروجهن.. فهذه الإرادة منهن للتحصن بالزواج، شاهد مبين على صلاحهن، وسلامة إيمانهن، وأنهن يرغبن عن الحياة الطليقة، التي يعيش فيها الإماء، مستباحات الأعراض.. إنهن بهذا الزواج الذي يرغبن فيه، يردن قيدا يقيّد خطوهن المطلق في عالم الخطيئة.. وهذا لا يكون إلّا من أمة تشعر بإنسانيتها، وتخاف اللّه في عرضها.
فالإمساك بالإماء اللاتي يرغبن في الإحصان بالزواج- الإمساك بهن عن الزواج، هو في الحقيقة- إكراه لهن على البغاء.. إذ لا سبيل إليهن- وهن رقيقات- إلا البغاء، رغبن في هذا، أو لم يرغبن.. إذ لا حجاز بينهن وبين من يريدهن.
ويكون تحرير معنى الآية هكذا:
{وَلا تُكْرِهُوا} أيها المؤمنون {فَتَياتِكُمْ} أي إماءكم اللاتي يرغبن التحصن بالزواج- لا تكرهوهن {عَلَى الْبِغاءِ} وتحملوهن عليه حملا، بمنعهن من التزوج.
وفى قوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا} إشارة إلى العلة التي قد تحول بين السيد، وبين إجابة رغبة أمته أو إمائه في التحصن بالزواج.
وذلك لما تشغل به الأمة عن سيدها، بزوجها، وبالحمل، والرضاعة، وغيرها، الأمر الذي يخفّ به ميزانها في خدمة سيدها، وينزل به قدرها عند بيعها.
وهذا المقطع من الآية هو الذي حمل المفسرين على القول بأن الإكراه مراد به الإكراه على الزنا، وجلب المال لأسيادهن من هذا الوجه.. وقد رأيت تأويلنا لهذا المقطع، واتساقه مع المعنى الذي ذهبنا إليه.
ثم تجىء خاتمة الآية هكذا: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وقد اضطرب المفسرون في توجيه هذه الخاتمة، وضاقت بهم السبل في تخريجها، إذ كيف يكره السيد أمته أو إيماءه على البغاء، ثم يجىء من ذلك عفو اللّه ومغفرته ورحمته؟ إن هذا أشبه بالتحريض على الإكراه على البغاء..!
ومن مخرج ضيّق كسمّ الخياط، خرج بعض المفسرين إلى القول، بأن المغفرة والرحمة إنما يراد بهما الإماء اللاتي أكرهن على البغاء، على حين لا تنال المغفرة والرحمة من أكرههن!! وهذا مردود من أكثر من وجه:
فالأمة في تلك الحال مكرهة، ولا ذنب عليها، ترجى له المغفرة والرحمة.
ففى الحديث الشريف: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
ثم هى من جهة أخرى، ملك في يد سيدها، لا تملك من أمر نفسها شيئا، فهو يحلّ منها ما يشاء لمن يشاء! وعلى هذا، فإن المغفرة والرحمة إنما تطلب لمن كانت منه إساءة، هى في مفهومنا ممن أمسك بهن عن التحصن بالزواج، وكان بسبب هذا كالمكره لهن على البغاء.. فإن هو رجع إلى اللّه، وأمسكهن عن طريق الفساد، وحصنهن بالزواج، نالته مغفرة اللّه، وسعة رحمته.
ومن جهة أخرى.. فإننا نرى في هذه الآية، دعوة إلى مالكى الرقاب بمكاتبة من يرونه صالحا للمكاتبة من عبيدهم، إذا هم رغبوا في هذا.
فهذه رغبة يدعو الإسلام إلى تحقيقها للعبيد.. لأنهم في الواقع هم الذين تنزع بهم نفوسهم إلى الرغبة في التحرر بالمكاتبة، بخلاف الإماء اللاتي لا حول لهن ولا طول.
ومن حق الإماء على الشريعة الإسلامية أن تحقق لهن رغبة يرغبنها، كما حققت للعبيد الرغبة التي يرغبونها.
ورغبة الإماء هنا، هى إرادة التحصن بالزواج، كما يقول سبحانه: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}.
فهذه الرغبة تقابل رغبة العبيد في المكاتبة كما يقول سبحانه:
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
وبهذا يعتدل ميزان الإماء والعبيد، في شريعة قامت على العدل والإحسان والمساواة.. في الحقوق، والواجبات.. للمرأة والرجل على السواء.
ومن جهة ثالثة، فإن الأمة إذا تزوجت أحصنت، كما يقول اللّه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ.. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [25: النساء].
ففى هذه الآية أمور.
أولا: أن الحرّة محصنة، سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة، وأن الأمة إنما تحصن بالزواج.
ثانيا: في زواج الأمة تكريم لها، ورفع لخسّتها، ونقلها من مرتبة الحيوان المملوك، إلى درجة المرأة الحرة.. حيث ينشىء لها الزواج حقوقا، ويفرض عليها واجبات، وقد كانت قبل الزواج مطلقة، لا حقوق لها، ولا واجبات عليها.
ثالثا: أن الأمة إذا تزوجت ثم زنت، وثبتت عليها الجريمة، أقيم عليها الحدّ، وهو نصف ما على المحصنات من العذاب، فتجلد خمسين جلدة.
رابعا: أشارت الآية إلى أن زواج الأمة لا يكون إلا بإذن مالكها وعن رضاه، فليس لها والحال كذلك، أن تزوج نفسها إذا رغبت في الزواج، وأرادت التحصن به.. فإن أبى عليها مالكها أن تتزوج، لم يكن أمامها إلا أن تعرض نفسها للرجال.. وهذا هو البغاء الذي أكرهها مالكها عليه بوقوفه في وجه الزواج الذي تتحصن به وتعفّ عن الفاحشة.
هذا، هو ما رأينا واللّه سبحانه وتعالى أعلم {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}.
هذه الآية هى ختام لآيات الأحكام، التي جاءت بها السورة من قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} إلى قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}.
وهى في هذا أشبه بالبدء الذي بدئت به السورة، في قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
فبدء السورة كان إعلانا بنزول آيات بينات، تلى هذا الإعلان، وتجىء بعده.
وقد نزلت هذه الآيات البينات، متضمنة تلك الأحكام الخاصة بحرمات الفروج. وحين انتهت الآيات من بيان هذه الأحكام، جاء قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ}.
ليذكّر بتحقيق هذا الخبر الذي أعلنته السورة في أول آية منها، وليلفت الأنظار إلى أن هذه الآيات، هى الآيات البينات، التي أشارت إليها الآية الأولى من السورة.. فليتحققوا من هذا الوصف، وليطلبوه منها، وليكون لهم منه عبرة وموعظة.
وفى وصف الآيات في أول السورة بأنها {آياتٍ بَيِّناتٍ} ووصفها هنا بأنها {آياتٍ مُبَيِّناتٍ} ما يحقق وصفين لهذه الآيات فهى آيات بينات واضحات مشرقات في ذاتها.. سواء نظر إليها الناظرون، أو لم ينظروا.. ثم هى مبينات، تكشف لمن ينظر فيها طريق الحقّ والهدى.
وقدّم وصفها بالبيّنات على وصفها بالمبينات.. لأنها في أول الأمر لم تكن بين يدى الناس، ولم ينظروا فيها بعد.. فكان وصفها بالبينات وصفا ذاتيا لها، دون نظر إلى اتصال الناس بها.. فلما نزلت، واتصل الناس بها كانت مبينة لهم الحق من الباطل، والهدى من الضلال.
وقوله تعالى: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} معطوف على قوله تعالى: {آياتٍ مُبَيِّناتٍ} أي وأنزلنا إليكم في هذه الآيات مثلا من الذين خلوا من قبلكم.
وهذا المثل الذي جاءت به الآيات هنا مشابها ومماثلا لمثل آخر وقع في الأزمنة الخالية- هذا المثل هو حديث الإفك، الذي رميت به السيدة عائشة- رضى اللّه عنها- ومثله في الذين خلوا من قبل، هو ما وقع لمريم- عليها السلام لما لقيها به أهلها من اتهام، حين جاءت إليهم بوليدها تحمله.. وقد برأ اللّه مريم في آيات بينات من كتابه الكريم، كما قال سبحانه وتعالى في اليهود: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً} [156: النساء]- فقد وصف اللّه سبحانه وتعالى قولهم في مريم بأنه بهتان عظيم، كما وصف سبحانه ما رميت به السيدة عائشة، بأنه بهتان عظيم، وذلك في قوله سبحانه: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ}.
وكفى السيدة عائشة- رضى اللّه عنها- قدرا وشرفا أن تكون مثلا مناظرا للسيدة مريم، عفة وطهارة، وأن تشاركها هذا الوصف الذي وصفت به في قوله تعالى: {يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ} [42: آل عمران].


{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}.
التفسير:
قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ.. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ.. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
هذه الآية تحدث عن سلطان اللّه، وامتلاكه لناصية كل موجود في هذا الوجود، من الذّرّة فما دونها، إلى النجم فما فوقه.
وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى ذاته بأنه نور السّموات والأرض.. أي أنه الكاشف لكل موجود طريقه في هذا الوجود، والهادي الموجّه له إلى الطريق الذي يأخذه، كما يقول سبحانه: {الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى} [50: طه].
فهذا النور الذي يضىء الوجود كله، ويقيم لكل موجود فيه، بصيرة، أو بصرا- هذا النور هو مظهر من مظاهر جلال اللّه، وعظمته، وقدرته.
فكما أن اللّه سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين، فكذلك هو- سبحانه- نور العالمين.
وقد ضرب اللّه سبحانه وتعالى لنوره العظيم، مثلا يقربه إلى العقول، ويدنيه من المدارك والتصورات، ويخرجه من عالم ماوراء الحس إلى عالم الحسّ.
وإلا فإن هذا النور في ذاته لا يمكن تصوره، حقيقة أو خيالا، لأنه من صفات اللّه، وكما لا تدرك ذات اللّه، فكذلك لا تدرك صفاته.
والمثل المضروب لنور اللّه هو المشكاة وهى الكوة أي الطاق المفتوحة في الحائط، والمغلقة من أحد وجهيها.. ويمكن أن تكوّن المشكاة هى هذا القنديل من البلّور، الذي يحمل المصباح.
وهذه المشكاة، أو القنديل، يتلألأ نورا مشعّا، يكاد يخطف الأبصار.
وهذا النور، ينبعث من {مصباح} وهو الشعلة المتقدة المضيئة، من فتيل أو نحوه، داخل المشكاة.
وهذا المصباح داخل زجاجة.
وهذه الزجاجة.. شفافة صافية.. كأنها كوكب درّىّ.
ثم إن وقود هذا المصباح هو، من زيت مبارك، مستصفى من شجرة مباركة زيتونة، {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي مغروسة في أنسب مكان لها، وأعدله.. فهى وإن كانت من نبات المناطق المعتدلة، لا الحارة، ولا الباردة، إلا أنها تأخذ أعدل مكان في هذه المناطق، فهى لا إلى الشرق، ولا إلى الغرب.
وقد يحسب بعض الناس أن التأثيرات الطبيعية في حياة الناس، والحيوان والنبات، تخضع لقرب المكان أو بعده من خط الاستواء.. وهذا، وإن كان صحيحا، إلا أنه ليس على إطلاقه، فإن قرب المكان أو بعده، من نصف الكرة الأرضية، شرقا، أو غربا، له تأثيره القوىّ في الكائنات الحية، من إنسان، وحيوان، ونبات، ولهذا اختلف الشرق والغرب، ولهذا قيل:
الشرق شرق والغرب غرب، بمعنى أن لكل منهما بيئة خاصة، يتأثر بها الأحياء التي تعيش فيها.. وإنه لشتان بين اليابانى في أقصى الشرق، وبين الأمريكى في أقصى الغرب، وإن كانا على خط عرض واحد.
والمشرق، أو النصف الشرقي من الكرة الأرضية، تختلف طبائع الناس فيه، بين من كان منهم في أقصى الشرق، ومن كان في أقصى الغرب من هذا الشرق، وذلك لامتداد المسافة وطولها بين شرق الشرق وغربه، وكذلك الشأن في الغرب، ولهذا جاء قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [17: الرحمن] وجاء في آية أخرى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ} [40: المعارج].. فالمشرق مشرقان، والمغرب مغربان.. والمشرق مشارق، والمغرب مغارب، وذلك حسب اتساع النظرة التي ينظر بها إليهما.
ولا شك أن وصف الشجرة الزيتونة بأنها لا شرقية ولا غربية، يدلّ على أنها أكرم شجرة زيتون، وأحسنها، وأتمها، إذ كانت تنبت في أعدل مكان من الأماكن التي تنبت فيها.
ونعود إلى هذا التشبيه الذي شبه به نور اللّه.
وقد أكثر المفسرون القول في العائد عليه الضمير في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} أهو اللّه؟ أم المؤمن؟ أم قلب المؤمن؟ أم القرآن؟ أم النبي صلى اللّه عليه وسلم؟.
والذي تدل عليه الآية صراحة، هو أن هذا الضمير يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى، وأن هذا التشبيه هو تشبيه لنور اللّه، وإنه لا حرج من أن يشبه نور اللّه بما يقع لحواسنا من نور، وللّه- مع هذا- المثل الأعلى، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقد وصف سبحانه ذاته، بأنه يرى، ويسمع، ويطوى السموات بيمينه، ويصنع من يصطفى من عباده على عينه.. إلى غير ذلك مما هو من صفات الإنسان، وأعماله.. وما ذلك إلا لنعطيه سبحانه، نحن البشر- الوصف الكامل، الذي ننتزعه من عالم الحس الذي نعيش فيه.
وقد تحرّج كثير من المفسرين أن يقبلوا هذا المثل لنور اللّه، ولهذا كان منهم تلك التأويلات التي تجعل النور لقلب المؤمن، أو للقرآن، أو للرسول الكريم.
وهذا مثل، وليس تماثلا من كل وجه بين نور اللّه، وبين هذا النور الممثل به نور الحق جل وعلا.
وفى الحديث: «إن اللّه سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته».
وتقول التوراة! خلق اللّه الإنسان على صورته.. على صورته خلقه.
وأين الإنسان من عظمة اللّه، وجلال اللّه؟ إنه هباءة تسبح في الهواء! قيل إن أبا تمام الشاعر، دخل على ممدوحه في مصر، فمدحه بقصيدة جاء فيها قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم *** في حلم أحنف في ذكاء إياس
فقال بعض حاشية الأمير: ما هكذا يمدح الأمير.. ما زدت أن شبهته ببعض صعاليك الأعراب! فسكت أبو تمام قليلا.. ثم قال، دافعا هذا الاعتراض، ومفحما هذا المعترض:
لا تنكروا ضربى له من دونه *** مثلا شرودا في الندى والباس
فاللّه قد ضرب الأقلّ لنوره *** مثلا من المشكاة والنبراس
فهكذا يجب أن تفهم الأمثال، وأنها ليست تماثلا بين مضرب المثل والمضروب له.
وقد عرضنا لهذه القضية في كتابنا قضية الألوهية بين الفلسفة والدين في الجزء الأول منه.
والصورة التي يصورها التشبيه هى: كوة أو مشكاة بلورية فيها مصباح متقد، وهذا المصباح مظروف في زجاجة صافية أتم ما يكون عليه الصفاء، حتى لكأنها كوكب درى.
ثم إن شعلة هذا المصباح تشتعل من زيت مستخلص من أكرم شجرة عرفت من شجر الزيتون.
فهذا النور، ليس مجرد نور، وإنما هو كما وصفه اللّه سبحانه: {نُورٌ عَلى نُورٍ}.
نور المشكاة البلورية. ثم نور الزجاجة الصافية صفاء الكوكب الدري، ثم نور الزيت الذي يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار.. ثم ضوء فتيل المصباح بعد أن يشتعل.. فكلّ منها نور يجتمع إلى نور.
وهذا النور هو أقصى ما كان يمكن أن تحصل عليه الإنسانية، أو تتشهّى الحصول عليه عند نزول القرآن.
أما ما جدّ بعد ذلك من نور الكهرباء- فإنه لا ينقض هذا النور، ولا ينقص من جلاله وروعته.. لأنه نور وديع، هادىء، لطيف، على حين أن نور الكهرباء زاعق، صارخ.. وهذا هو السّر أو بعض السرّ في ضرب المثل بهذا النور، دون ضوء الشمس، وهو أبهى بهاء وأقوى قوة من كل نور تعرفه الإنسانية.
وقد قلنا إن المراد بنور اللّه هنا، هو هداية اللّه سبحانه وتعالى لكل ذرّة في هذا الوجود، وإقامتها في مكانها الصحيح، وتوجيهها الوجهة التي تأتلف فيها مع الوجود، وتتناغم مع الموجودات.. فكأنّ كل ذرة من ذرات الوجود تعمل في نور، فلا تضلّ طريقها أبدا.
ثم إذا نظرنا بعين العلم اليوم، رأينا الوجود كله نورا.. فالأجسام جميعها مكونة من ذرات، والذّرات- كما عرف العلم- نور من نور.. فكل ذرة مجموعة من الشموس، تدور في فلك النواة التي للذرة.. فهذه الأجسام المعتمة وغير المعتمة، من جبال، ورمال، وتراب، وأناسىّ، ودوابّ، وعربات، وسيارات، ودور، وقصور، وشموس وأقمار- هى نور مجسد، متكاثف. إذا انحلّ إلى ذرات كان كتلا من النور الوهاج.
فالعالم المادىّ- كما يبدو اليوم في مرآة العلم الحديث- هو شموس من نور، وأن نوره سبحانه، يتخلل هذا النور، الذي هو بالإضافة إلى نور اللّه ظلام، لا تتجلى حقيقته إلا على ضوء نور اللّه، كما تتجلى حقائق الأشياء التي تقع في محيط المشكاة، وما يشعّ المصباح الذي فيها من أضواء.
فنور اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي يمسك هذا الوجود على نظامه الذي أقامه اللّه عليه، إذ على هذا النور يدور كل موجود في فلكه، متناغما متجاوبا مع دورة الموجودات كلها في فلك الوجود.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.
(40: النور) وقوله سبحانه:
{قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ} [15: المائدة] وعلى هذا يكون المراد بنور اللّه، هو ما أودع في الموجودات من سنن، وما ركّب في المخلوقات من قوى، وما بعث في الناس من رسل، وما أنزل من كتب، ومن دلائل.. ففى كل هذا نور من نور اللّه، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [16: المائدة] ولهذا جاءت هذه الآية:
{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} تالية قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} وذلك بعد أن كشفت آيات اللّه بأنوارها هذه الغاشية التي غشيت المسلمين من حديث الإفك، حتى لقد انقشع ظلامها، وانجلى ليلها عن صبح مشرق مبين.
ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيومية اللّه سبحانه وتعالى، وسلطانه القائم في الوجود- بالنور.. إنما هو لما في النور من لطف، بحيث لا يتجسد أبدا، بل أنه في هذا على عكس الأشياء كلها، فالأشياء اللطيفة كالزجاج الرقيق مثلا، كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته، ثم لا تزال شفافيته نقل كلما تكاثرت طبقاته حتى يصبح جسما معتما.. أما النور، فإنه كلما تضاعفت أشعته، ازداد شفافية وقدرة على كشف المرئيات التي يقع عليها.. فنور شمعة في حجرة، ونور آلاف منها في نفس الحجرة، هو هو من حيث أنه لا يشغل حيّزا فيها، ولا يحدث خلخلة في الهواء الموجود بها، وإن كان يزيد الموجودات وضوحا وانكشافا.
ومن جهة أخرى، فإن النور- مع شفافيته، ومع زيادة هذه الشفافية كلما قوى وكثر- هو أكثر ظواهر الطبيعة سرعة، بحيث لا يكاد يقيد بقيد الزمن.. فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر في لمحة بصر، لا تتجاوز جزءا من الثانية.
فالنور- كما ترى- لا يتحيز في مكان، ولا يكاد يتقيّد بزمان.
واللّه سبحانه وتعالى لا يحويه مكان، ولا يحدّه زمان.
فإذا كان اللّه نور السموات والأرض، كان معنى هذا أنه- سبحانه- وهو القيوم على الوجود- ليس حالّا في الموجودات، ولا متحيزا فيها، ولا محجوزا في مكان منها دون مكان.. وأقرب مثل لهذا في تصورنا، هو النور المنبعث من مصباح في زجاجة درية، داخل مشكاة، هى أشبه بالوجود الذي يستضىء بنور اللّه.. فهذه المشكاة، يكشف النور وجودها، دون أن يشغل حيزا فيها، ودون أن تحيزه هى داخلها، لأنها شفافة لا تحجب النور الذي يشع فيها، ودون أن يكون هناك زمان ينتقل فيه النور من مكان إلى مكان فيها.
وإذا علمنا أن الوجود- كما أثبت العلم- مصور على هيئة كروية، كان لنا أن نرى هذا الوجود ممثلا في تلك المشكاة البلورية، المعلقة في الفضاء يضيئها مصباح في زجاجة كأنها كوكب درىّ، يوقد من زيت شجرة زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار!.. وأقرب صورة للوجود، والنور المنبعث في كيانه، هو القنديل المعلق في بيت من بيوت اللّه، ينبعث منه النور في ظلمات ليل بهيم.
ومن بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، ينبغى أن نفرق بين نور ونور.
نور اللّه، وهذا النور الذي نصطنعه.. فهذا النور الذي نحصل عليه من الطبيعة، هو ظلام بالإضافة إلى النور الإلهى.. الذي لا يعرف كنهه، ولا يدرك سره، وإن استضاءت به البصائر واستنارت به القلوب.. فهذا مثل، لا يقوم منه تماثل بينه وبين الحقيقة المشار إليه بها.. {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وفى قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ} إشارة إلى أن نور اللّه الذي يملأ الوجود، هو نفحة من النور العلوي، وأن هذه النفحة، موجودة في كل موجود.. ومع هذا فإن اللّه سبحانه وتعالى ألطافا بعباده، فيصل نورهم بنوره، ويفتح لهم بهذا النور طريقا إلى عالم الحق، والخير:
{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ}.
فالوجود كله، وإن كان نورا من نور اللّه، بالإفاضة والخلق، فإن هناك نور الهداية، الذي يضىء البصائر، ويشرح الصدور، وهذا النور يدعو اللّه إليه من شاء من خلقه، ليكونوا في ضيافة هذا النور القدسي؟ وليكونوا ربانيين، بما فيهم من النور الرباني، الذي أمدهم اللّه به: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} [40: النور].
قوله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ}.
أي هذا النور، الذي صوّرته المشكاة، والمصباح، هو مثل، وليس حقيقة، لأن نور اللّه سبحانه وتعالى لا يمكن وصفه، وإن أمكن الإشارة إليه بصورة تمثله، ولا تماثله.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى أن نور اللّه، هو من علم اللّه الكاشف لكلّ شىء.. فهو نور علم وهداية، يصدر عن عالم، حكيم، مدبر، فيفيض على الوجود هدى ورحمة، ويسكب على الموجودات سكينة وسلاما وأمنا.
قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ} متعلّق الجار والمجرور {فِي بُيُوتٍ} هو فعل محذوف، تقديره: إذا أردتم التماس هذا النور.. نور اللّه.. فالنمسوه {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.
وهذا الذي نقول به، هو أنسب من القول بأن هذا الجار والمجرور متعلق بمشكاة، على تقدير:
{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ.. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}.
وهذا بعيد من حيث النظم، ثم بعيد من حيث المعنى. إذ أن نور اللّه هو نور اللّه، سواء في المساجد، أو في غيرها.
والذي ذهبنا إليه، هو المناسب للمقام.. إذ كان قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ}.
مشوّقا للنفوس أن يكون لها نصيبها من هذا النور، وأن تكون فيمن شاء اللّه هدايتهم إليه.. ومن بواعث هذا الشوق تجىء تساؤلات عن هذا النور، وكيف السبيل إليه، وبلوغ النفس حظها منه؟ ولا تكاد النفس تتلقّى هذه الخواطر المتسائلة، وهى بين يدى قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ} حتى يلقاها الدليل الذي يأخذ بها إلى مواقع هذا النور:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ففى هذه البيوت التي أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يلتمس نور اللّه، حيث يتجلى اللّه سبحانه وتعالى على كل من يغشون هذه البيوت، ويذكرون اللّه فيها.
وفى تنكير البيوت، تعظيم لمقامها، ورفع لشأنها، وتضخيم لقدرها، وإن ضاقت رقعة وقلت عددا.. فهى أيّا كانت، أعلى البيوت مقاما، وأرفعها عمادا، وكل بيوت غيرها، ظلّ لها، ومرفق من مرافقها.
وإذن اللّه برفع هذه البيوت، هو أمره بإقامتها.. فحيث أقيمت، فهى مرفوعة على كل بنيان، وإن علا بناء، وعظم جسما.
وقوله تعالى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} معطوف على قوله تعالى: {تُرْفَعَ} أي أذن اللّه أن ترفع، وأذن أن يذكر فيها اسمه.. وهو بيان للغاية من رفعها، وإقامتها، وأنها إنما رفعت وأقيمت ليذكر فيها اسم اللّه.. فهى بيوت عبادة، وذكر للّه.
وذكر اسم اللّه، هو ذكر اللّه.. واسم اللّه، هو صفته، وليس للّه سبحانه اسم واحد، أو صفة واحدة، وإنما له أسماء وصفات كثيرة، هى الكمال المطلق، كما يقول سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها} [180: الأعراف] ودعاء اللّه بأسمائه، هو ذكر وتمجيد له.
وفى ذكراللّه، ذكر لجلاله، وعظمته، وقيومته، واستحضار لما له سبحانه وتعالى في خلقه، من تقدير وتدبير، وفى هذا الذكر يتصل العبد بربه، ويقترب من مواقع رضاه ورحمته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [28: الرعد] وقد عرضنا لبحث هذا الموضوع، عند تفسير هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ}.
هو بيان شارح لهذه المساجد، ولمن يغشونها من عباد اللّه.. فهذه البيوت لا تهشّ، ولا تسعد إلا بمن يتعلق فلبه بها، ويجد الأنس والمسرّة في رحابها، ويستشعر الغربة والوحشة في البعد عنها، فهو لهذا غاد ورائح إليها، لا تلهيه تجارة ولا بيع عن غشيانها وذكر اللّه فيها، ابتغاء رضوانه، وخوفا من لقائه في يوم {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ} أي تضطرب فيه القلوب هولا وفزعا، وتزيغ فيه الأبصار، كربا وجزعا.
والغدوّ: أول النهار، والآصال: جمع أصيل، وهو آخر النهار.. وأفرد الغدوّ: لأن فيه صلاة واحدة، هى صلاة الصبح.. وجمع الأصيل.. لأنه زمن ممتد، فيه صلاة الظهر، والعصر، والعشاءين.. (المغرب والعشاء).
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}.
هو تعليل لما ببغيه الغادون والرائحون إلى بيوت اللّه.. أي أنهم يفعلون هذا، ويولّون وجوههم إلى ربهم بالغدو والآصال، ليكون ذلك سببا في أن يرضى اللّه عنهم، ويجزيهم أحسن ما عملوا ويقبله منهم، ويتجاوز بإحسانهم هذا عن سيئاتهم، كما يقول سبحانه: {أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ} [16: الأحقاف].. وليس هذا فحسب، بل إنه سبحانه وتعالى- سيزيدهم من فضله، ويضاعف الجزاء لهم من إحسانه.
فهذا رزق من رزقه {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} لأن خزائنه ملأى أبدا، لا تنقص بالعطاء.. وإذن فلا يجرى حساب على هذه الخزائن، لإحصاء ما ذهب منها وما بقي.
ولكن- مع هذه الخزائن الملأى من رزق اللّه، ومن فضله، وإحسانه- فإنه سبحانه، قيوم حكيم، يضع رحمته حيث يشاء، ويعطى منها ما يشاء لمن يشاء، بحساب وتقدير، حسب ما تقضى به حكمته وتدبيره، وفى هذا يقول سبحانه:
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ}.
ويقول جلّ شأنه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [21: الحجر].
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ}.
فى الآية السابقة، ذكر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين، الذين يغدون ويروحون إلى بيوته، يذكرونه ويسبحون بحمده، وقد وعدهم اللّه على ذلك، قبول أحسن ما عملوا، ومضاعفة هذا الإحسان.
وفى هذه الآية عرض للكافرين، وأعمالهم التي يعملونها في دنياهم.
إنها أعمال مهلكة لأهلها، لا يجيئهم منها إلا البلاء وسوء المنقلب.. لأنها أغوتهم وأضلتهم، وخيّل إليهم منها أنها أعمال مبرورة، وأنها غرس في مغارس الخير والإحسان.. وهى في حقيقتها أشبه بالسراب، يلمع في قيعة-جمع قاع- وهو الأرض الفسيحة التي لا زرع فيها.
وفى قوله تعالى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً} إشارة إلى خداع النفس، بعد خداع البصر بهذا السراب، فإن لهفة الظمآن، وحرارة شوقه إلى الماء، تغطّى على عقله، فيخال السراب ماء، مثله كالخائف المذعور، في سواد الليل ووحشته، يمثّل له الوهم أشباحا تطلع عليه من كل أفق، تريد الانقضاض عليه والفتك به.
وإلى هذا السراب يشتد طلب الظمآن، ويسعى حثيثا لاهثا إليه، وكلما قطع مرحلة وجد السراب يتحرك أمامه ويفلت من بين يديه، وهكذا حتى تتقطع أنفاسه: {حَتَّى إِذا جاءَهُ} ووصل إلى حيث كان يظن أنه الماء {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}! فتتضاعف لذلك حسرته، ويشتد يأسه، وتتقطّع أنفاسه، وتغلى مراجل غيظه وظمئه.
وليس هذا وحسب، بل إنه سيجد هناك من يمسك به، ويقوده إلى موقف الحساب على ما كان منه من كفر، وضلال.. {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ.. فَوَفَّاهُ حِسابَهُ.. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ}! فالكفر يمحق كلّ عمل وإن كان من باب الخير والإحسان.. لأن كل عمل لا يزكّيه الإيمان، هو أشبه بالميتة، لا يؤكل لحمها، وإن كانت من أطيب الحيوان لحما! قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً.. فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.
هو مثل آخر، تشبه به أعمال الكافرين، بعد أن شبهت بالسراب.
والفرق بين المثلين، أن السّراب صورة تمثيلية لما يراه الكافرون في أعمالهم وهم في الحياة الدنيا، حيث يرونها في صورة حسنة معجبة.. وهى في حقيقتها سراب يخدعهم، ويدفع بهم في طريق الغواية والضلال، حتى تخمد أنفاسهم، ويسلمهم هذا السراب إلى القبر، وما وراء القبر من حساب، وعقاب.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}.
(8: فاطر) وهنا في هذا المثل، تطلع عليهم أعمالهم هذه في الدار الآخرة، حيث يلتمسونها، فيجدون أنهم غارقون في ظلام مطبق، لا يرى فيه أحدهم يده، إذا أخرجها من كمّه، وعرضها لعينيه.. فكيف يرى هذه الأعمال، التي كان يظنها أعمالا مبرورة محمودة؟ إنها قد استحالت إلى قطعة من الظلمات، في كيان هذه الظلمات.. فليقتطع لنفسه قطعة من هذا الظلام إن أراد، وإن استطاع! {أَوْ كَظُلُماتٍ} كظلمات لا ظلمة واحدة، بل طبقات بعضها فوق بعض من مادة الظلام {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} أي متلاطم الموج، حيث يتعالى الموج، ويركب بعضه بعضا، فإذا سواده الكثيف يلتقى مع هذه الظلمات المطبقة على هذا البحر اللجىّ {يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ} أي يغطى هذا البحر موج، وفوق الموج، موج، وفوق الموج، سحاب، هو موج فوق موج.. وهو {ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ}.
وأنّى لمن تركبه هذه الظلمات أن يعرف طريقا إلى النجاة والخلاص؟ إنه لا يكاد يرى يده التي يمدّها إلى حبل النجاة إن كان هناك حبل! إن هذا الظلام يكاد ينعقد عليه، ويلبسه من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، حتى تضيق به أنفاسه، وتزهق منه روحه! وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} أي من لم يجعل اللّه في قلبه نورا، هو نور الإيمان، الذي يهدى صاحبه إلى طريق السلامة والنجاة، فهيهات هيهات أن يجد النور أبدا.. وإنه للمحروم الشقي، ذلك الذي حرم حظّه من نور اللّه، الذي يملأ السموات والأرض!


{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ}.
فى هذه الآية، والآيات التي بعدها، استعراض لقدرة اللّه، وبسطة نفوذه، وسلطانه المتمكن في هذا الوجود، والآخذ بناصية كلّ موجود.. وذلك بعد أن عرضت الآيات السابقة مثلا لنور اللّه سبحانه وتعالى، الذي يملأ الوجود كله، ويسرى في كيان كل ذرة فيه، ويقيمها المقام المناسب لها في ملكوت السموات والأرض.. وأن هذا النور قد اهتدى به المهتدون، فأسعدهم اللّه وأرضاهم، وأنزلهم منازل السعادة والنعيم، على حين قد عمى عن هذا النور، الضالون، والمشركون، والكافرون، فأذاقهم اللّه الوبال والخسران، وأنزلهم منازل الهون والشقاء.
وفى هذا العرض الذي تعرض فيه هذه الآية والآيات التي بعدها، ماللّه سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان- في هذا العرض تثبيت لإيمان المؤمنين، وربط على قلوبهم، وتوثيق للصلة التي أقامها الإيمان بينهم وبين ربّهم.. ومن جهة أخرى، فإن في هذا العرض دعوة مجدّدة إلى الكافرين، والمشركين، والمنافقين ومن في قلوبهم مرض- أن يعيدوا النظر في موقفهم هذا الزائغ المنحرف عن سواء السبيل، وأن ينظروا في هذه المعارض التي تعرضها تلك الآيات لجلال اللّه، وقدرته، وعظمته، ففيها نور اللّه لمن يلتمسون النور، ويطلبون الهدى.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.
الرؤية هنا معناها العلم الذي يجىء عن بحث ونظر.. وهو خطاب للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم، يخاطب به كلّ من هو أهل للخطاب.. ثم هو دعوة إلى النظر والتدبّر في هذا الوجود.. وعن هذا النظر وذلك التدبر يستطيع الإنسان أن يرى انقياد الوجود كلّه للخالق جل وعلا، وولاءه له، وعبوديته لذاته، وخضوعه لجلاله.. وبهذا يعلم أن كل ما في السموات والأرض يسبّح بحمد اللّه ويمجّده، ويعظّمه.. {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [44: الإسراء].. فهو تسبيح وولاء، وخضوع واستسلام، كما يقول سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} [15: الرعد].
وقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ}.
معطوف على فاعل الفعل {يُسَبِّحُ} وهو الاسم الموصول {من} والمعنى.. ويسبح له {الطَّيْرُ صَافَّاتٍ}.
وصافات، حال من الطير، أي أنها تسبّح للّه سبحانه وتعالى، وهى في أروع مظاهرها، وأعلى منازلها، حيث تكون محلقة في جوّ السماء، صافّة أجنحتها، أي باسطتها في حال من الهدوء والسكون، كأنها تستعرض العالم الأرضى، وتبسط ظلها عليه.. فهى في علوّها وتربعها على هذا العرش، لم يدخل عليها شيء من الكبر والغرور، كما يقع ذلك لكثير من الناس، بل إنها لتزداد بهذا ولاء وخشوعا للّه، فتقيم صلاتها للّه، في جوّ السماء، صافة أجنحتها، مرسلة جوارحها، في خشوع واستسلام، معتمدة على قدرة اللّه، لا تخشى أن تهوى من حالق.
وهذا هو التوكل في أروع مظاهره.
وقوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}.
يمكن أن يكون فاعل الفعل {عَلِمَ} ضمير يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى:
ويكون المعنى كلّ من هذه المخلوقات قد علم اللّه صلاته وتسبيحه.. وهذا هو الذي ذهب إليه المفسّرون.
ويمكن أن يكون الفاعل ضميرا يعود إلى هذه المخلوقات.. ويكون المعنى أن كلّ مخلوق من هذه المخلوقات، قد علم الصلاة التي يصلّى بها، والتسبيح الذي يسبّح به للّه.. وهذا هو الرأى الذي نقول به.
ويكون معنى العلم هنا، هو ما أودعه اللّه في كيان كل مخلوق من قوى يتصرف بها، ويعمل حسب ما يسّره اللّه له.. وهذا يشعر بأن عملها هذا ليس عملا آليا، وإنما هو عمل عن علم، ذاتى، أو خارج عن الذات.. فهو على أي حال عمل يحكمه علم، حتى يحقق هذا التآلف، والتجاوب بين موجودات الوجود، في حمد اللّه وتسبيحه.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} إشارة إلى علم اللّه سبحانه وتعالى، المحيط بكل شىء، والعالم بكل ما يعلم الخلق وما يعملون.
وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن هذه المخلوقات لها علمها الذي تعمل به، وأن للّه سبحانه وتعالى علمه، المحيط بعلمها وعملها جميعا! قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.
هو تأكيد لعلم اللّه بعلم المخلوقات، وبعملها.. إذ هو علم متمكن، لأنه علم الخالق لما خلق، ومعرفة المالك لما ملك.. فقد يعلم الإنسان الشيء ولا يملكه ولا يقدر على التصرف فيه بمقتضى ما يعلم منه.. أما علم اللّه فهو علم المالك لما ملك، يتصرف فيه كيف يشاء، بما يقضى به علمه، وحكمته، وإرادته.
وفى قوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} تأكيد للملكية، وأنها ملكية لا تخرج عن سلطان المالك أبدا، لا كملكية المالكين لما يملكون.. إذ أن كل ما يملكه الإنسان من شىء، هو ذاهب عنه، مقضىّ عليه بالفراق بينه وبين ما ملك.. إما بأن يستهلكه في حياته، وإمّا بأن يموت عنه، ويخلّفه وراءه لمن يرثه من بعده.. أمّا ملكية اللّه سبحانه وتعالى لهذا الوجود وما فيه، فهو ملك لا يخرج من يد المالك أبدا، مهما تحولت أحواله، وتبدّلت صوره وأشكاله، فالمالكون، وما يملكون صائرون جميعا إلى اللّه.
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ}.
يزجى: أي يدفع، ويحرك.
والركام: المتراكم، المجتمع بعضه إلى بعض.
الودق: المطر، ينزل متساقطا في قطرات، فيدق الأرض، أي يترك فيها آثارا.
فى هذه الآية عرض محسوس لقدرة اللّه، بعد هذا العرض غير المحسوس، الذي جاءت به الآية السابقة، من النظر المطلق الشامل للوجود كله، وما قام عليه من نظام.
وفى هذا العرض، إلفات إلى ظاهرة من ظواهر الطبيعة، التي يشهدها الناس جميعا في كل زمان، وكلّ مكان.
فهذه السحب التي تنطلق في مواكب متدافعة في جو السماء، كأنها جيوش غازية، تزحف إلى ميدان القتال، أو تتراكض عائدة من المعركة محملة بالغنائم والأسلاب- هذه السحب: من أنشأها؟ ومن سيرها؟ ومن حدّد لها خط مسيرها؟ ومن وقف بها عند غاية معلومة لها؟
ألا فليعلم من لم يكن يعلم، أن اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي أنشأها، وسيرها، وحدّد لها وجهتها، وأمسك بها عند الغاية المحددة لها.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً}.
فهذه صور ثلاث، لمشاهد السحاب.. يولد أولا دخانا رقيقا، ثم يدفعه الرّيح في خفة ويسر.. ثم يجتمع هذا السحاب بعضه إلى بعض، فيتكاثف شيئا فشيئا، ثم يتدافع هذا السحاب، ويدخل بعضه في بعض، فإذا هو ركام، أشبه بالآكام، أو الجبال.
وفى قوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}.
إلفات إلى مولد المطر من هذا السحاب، وتحلبه من خلاله، كما يتحلّب اللبن من الضرع.
وليس يدرك سر هذه اللفتة إلى قطرات الماء، وهى تتساقط من السحاب، إلّا من عاش في الصحراء، وشهد آثار الماء حين ينزل إلى الأرض، ويبعث الحياة والحركة في جمادها ونباتها، وحيوانها.. إنها عملية خلق، وبعث جديدين، لهذا الجسد الكبير الهامد.. ثم هو بعد ذلك عرس رائع، تحتشد له الأحياء، وتنطلق من كيانها نشوات البهجة والحبور، في أهازيج، وأناشيد، وزغاريد:
يتألف منها لحن عبقرىّ بالتسبيح والحمد للّه رب العالمين.
انظر إلى هذا الوصف الرائع، الذي صوّر به امرؤ القيس احتشاد الطبيعة، ونشوتها غبّ مطر.. فيقول امرؤ القيس، في معلقته المشهورة:
أصاح ترى برقا أريك وميضه *** كلمع اليدين في حبىّ مكلّل
يضىء سناه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذّبال المفتّل
قعدت له وصحبتى بين ضارج *** وبين العذيب بعد ما متأمّلى
كأنّ مكاكىّ الجواء غديّة صبحن *** سلافا من رحيق مفلفل
هذه نظرة شاعر.. نظر إلى هذه الظاهرة من ظاهرها، وشغل بألوانها، وألحانها، عما وراء هذه الألوان، وتلك الألحان، من حقائق، تصل هذه القطعة من الطبيعة بالوجود كله، ثم تضيف هذا الوجود إلى الموجد، المبدع، المصوّر! وإليك نظرة نبىّ! ومن؟ إنه نبىّ الأنبياء، وخاتم المرسلين، محمد بن عبد اللّه، صلوات اللّه وسلامه عليه.
فقد روى أنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- كان إذا نزل المطر، خرج إلى العراء، وكشف له عن رأسه، واحتواه بين ذراعيه.. وكان صلوات اللّه وسلامه عليه يقول: «إنه قريب عهد بربه» أي إنه رحمة مرسلة من عند اللّه.. رحمة محسوسة ملموسة، ترى بالعين، وتلمس باليد، وتذاق باللسان..!
فمن أراد أن يشهد رحمة اللّه عيانا، فهى في هذا الماء المنزّل من السماء.. صافيا طاهرا، لم يعلق به شيء من أخلاط الأرض.. إنه في طهر المواليد التي تلدها الحياة.. من إنسان أو حيوان أو نبات! قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ}.
أي وينزل من جبال في السماء، وهى السحب المتراكمة- بردا، وهو قطع الثلج.
فقوله تعالى: {مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ} بدل من السماء.
وفى الإشارة إلى هذه الظاهرة، إشارة إلى أن هذه السحب التي ينزل منها الماء، هى أيضا، وإن كانت مصدر نعمة، يمكن أيضا أن تكون مصدر نقمة، حين ينزل منها هذا البرد، وكأنه قطع من الأحجار، تتساقط من الجبال، فتهلك كل من تقع عليه، وكأنها بهذه العقوبة الراصدة إلى جانب تلك النعمة الكبرى المنزلة من السماء- مرصودة ليؤخذ بها كل من يكفر بهذه النعم، ولا يضيفها إلى المنعم بها، ويسبح بحمده، ويشكر له.
وقوله تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ} أي أن هذا البرد الذي تحمله السحب بين يديها، لا نرمى به هكذا من غير حساب، بل هو مملوك بيد القدرة القادرة، فيقع حيث أراد اللّه أن يقع، ويصرف عمن أراده اللّه سبحانه أن يصرفه عنه، من نبات، وحيوان، وإنسان.
وفى قوله تعالى: {يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} لون جديد تكمل به الصورة، صورة هذا العذاب الواقع مع البرد المتساقط كالأحجار.. فهذا البرد يحمل معه الصواعق المهلكة، والنار المحرقة، وإن كان ماء! فما أعظم قدرة القادر، وما أعزّ وأقوى سلطانه!! قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ}.
وهذه ظاهرة أخرى.. تشهدها الحواس، وتعيش فيها.. حيث يدور الليل والنهار في هذا الفلك دورة منتظمة، محكمة، لا تتخلف أبدا.. وكأنهما الكفّ في حركتها، ظاهرا وباطنا..! يقلبهما اللّه- سبحانه- كما يقلب الإنسان كفّه! وفى هذا عبرة وعظة لأولى الأبصار.. {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا} [191: آل عمران].
قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ.. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
هذه الآية، شارحة لنعمة الماء، الذي أشارت إليه الآية قبل السابقة.
فهذا الماء الذي ينظر إليه بعض الناس نظرة باردة جامدة، ولا ينظر إليه بعضهم أبدا- هذا الماء هو أصل هذه الحياة، وهو جرثومة كل حى.. من نبات، أو حيوان، أو إنسان.. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.
فليعد الإنسان الغافل النظر إلى هذا الماء، وليرجع إليه البصر مرة ومرة ومرات، وسيرى أن هذا الماء هو أصل وجوده، كما أنه سبب في إمساك هذا الوجود، وحفظه، وأنه لو حرم الماء لأيام معدودة لهلك!.
فالماء، هو الحياة العاملة في هذا الكوكب الأرضى.. ففى الماء أودع اللّه سرّ الحياة، في صورها المختلفة، وأشكالها المتباينة المتعددة.. فحيث كان الماء كانت الحياة، وكانت الحركة، وكان التوالد لصور الحياة، التي تكتسى بها الأرض حسنا وجمالا، وتتبدل بها من وحشتها بهجة وأنسا.
ونظرة في وجوه الأرض المختلفة، يتكشف لنا منها ما للماء من آيات وأسرار.. فحيث يوجد الماء يوجد الخصب والنماء، وتشاهد الحركة والحياة، وحيث يفتقد الماء، يكون الجدب، والوحشة، والموات، والهمود.!
ومن أجل هذا كان للماء هذا الذّكر الحفىّ به في القرآن الكريم.
ويكفى أن يكون عرش اللّه سبحانه وتعالى على الماء، كما يقول سبحانه:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} [7: هود].. والمراد بالعرش، هو السلطان.. وهذا يعنى أن سلطان اللّه قائم على الماء. يصرفه كيف يشاء، ويخلق منه ما يشاء.. وهذا يعنى أيضا أن الماء هو سر الحياة، التي يفيضها اللّه سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته على الأحياء في الوجود كله.
وفى قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ.. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ}.
إشارة إلى تنوع صور المخلوقات، وتعدد أشكالها، وهى جميعها من مادة واحدة، لا لون لها، ولا طعم، ولا رائحة.
إنها شيء واحد، ومع هذا فقد جاءت بقدرة القادر، وصنعة الخبير الصانع- على هذه الصور التي لا تكاد تحصر من عوالم الأحياء، على اختلاف صورها، وتباين أشكالها، وتعدد ألوانها.
وهذا التقسيم الذي أشارت إليه الآية، هو تقسيم عام، حيث يندرج تحت كل قسم ما لا حصر له من صور وأشكال، تنضوى تحت كل قسم، وتندرج تحت كل صنف.
فأنواع الزواحف، من ديدان، وحيات، وحشرات.. وما شاكلها- هى مما يمشى على بطنه.
والناس، واختلاف ألسنتهم وألوانهم.. والطير، وتعدد أجناسه واختلاف ألوانه وأشكاله.. ذلك كله ممن يمشى على رجلين.
والبهائم والدوابّ، والأنعام، والوحوش.. في تعدّد عوالمها، واختلاف أجناسها.. ممن يمشى على أربع.
وقوله تعالى: {يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ} هو إلفات إلى هذه القدرة القادرة، التي تبدع وتصور وتخلق، هذه الصور، وتلك الأجناس والأنواع، من عنصر واحد.. وهذا لا يكون إلا من قادر حكيم عليم، يتصرف كيف يشاء.. ولو كان ذلك من عمل غير هذه القدرة المطلقة، لجاءت جميع المخلوقات في قالب واحد، وعلى صورة واحدة.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تقرير لهذه الحقيقة، وتأكيد لها، وأنها لا تصدر إلا ممن هو على كل شيء قدير.. لا يعجزه شيء وهذا كلّه في عالم الأرض.. ومن قطرة الماء.
وأين الأرض، وما فيها، ومن فيها، من ملك اللّه العظيم؟
ألا شاهت وجوه من يولّون وجوههم إلى غير اللّه، وألا خسئ وخسر المبطلون!.
قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} المراد بالآيات المبينات، هى تلك الآيات التي تحدثت عن نور اللّه، وعن أن هذا النور هو آيات مبينات، تسرى في كيان الموجودات، وتقيم كل موجود بمكانه الملائم له، وتوجهه وجهته المقدرة له.. ثم كان من نور اللّه، تلك الآيات القرآنية، التي كشفت للناس طريقهم إلى اللّه، وأطلعتهم على دلائل قدرته، وآثار رحمته.. وذلك فيما جاء في الآيات التي تحدثت عن بيوت اللّه التي أذن اللّه أن ترفع، ويذكر فيها اسمه.. والآيات التي تحدثت عن الكافرين وأعمالهم، ثم في هذه الآيات التي عرضت تلك المشاهد الناطقة بقدرة اللّه، وسعة علمه ونفوذ سلطانه.. من السحاب والمطر، ومن خلق الحياة القائمة على الأرض من عنصر الماء.
ففى هذا كله، آيات مبينات، أي موضحات، وكاشفات، لطريق الحق، والهدى، والإيمان باللّه، والولاء له، والتسبيح بحمده.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
إشارة إلى أن هذه الآيات المبينات، وتلك الشموس الساطعة، لا يهتدى بها، ولا يبصر الحق على ضوئها، إلا من أراد اللّه أن يفتح عيونهم إليها، ويكشف لبصائرهم الطريق إلى اللّه من خلالها.. وذلك شأنه في عباده: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [39: الأنعام].. {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} [125: الأنعام].

1 | 2 | 3 | 4 | 5